بقلم د. نوف بندر البنيان
نخطيء عندما ننظر للتاريخ بأنه سرد لأحداث الماضي ؛
يقول الله تعالى : (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ)
آل عمران : ١٤٠. والمراد بالأيام : الأوقات والأزمان المختلفة لا الأيام العرفية التي يتكون الواحد منها من مدة معينة .
وقد فسر صاحب الكشاف مداولة الأيام بتبادل النصر ، فقال : وقوله تعالى : وَتِلْكَ الْأَيَّامُ ،
تلك : مبتدأ .
والأيام : صفته ونُداوِلُها : خبره .
ويجوز أن يكون تِلْكَ الْأَيَّامُ مبتدأ وخبرا ، كما تقول : هي الأيام تبلى كل جديد .
والمراد بالأيام : أوقات الظفر والغلبة .
ونداولها : نصرفها بين الناس ، نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء".
وقد تكلم الإمام الرازي عن الحكمة في مداولة الأيام بين الناس فقال
ما ملخصه : واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله- تعالى- ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، وذلك لأن نصرة الله منصب شريف ، وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه :
الأول :
إنه- سبحانه- لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات . لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب ، فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية ، والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله .
والثاني : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي ، فيكون تشديد المحنة عليه في الدنيا أدبا ، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضبا من الله عليه".
ووجه آخر وهو شحذ عزائم المؤمنين في اتخاذ وسائل النصر فلا يركنون إلى إيمانهم ويتركون العمل بالأسباب .
ونخلص من ذلك أن الأيام بمنحاها في الآية غير متشابهة في الظروف والأحوال ؛ فما حصل في الماضي كان حسب الظروف والأحوال الواقعة زمن حدوثه ؛ ومايحدث اليوم مختلف عما يحدث غدًا فبالتالي التاريخ لايعيد نفسه ولكل زمن تاريخه الخاص به ؛
يقول آدم جوبنيك :
"الخطيئة الحقيقية الناجمة من غياب الوعي بالتاريخ هي أن هذا الغياب يشجع على الحضورية ، بمعنى أن ذلك سيؤدي إلى المبالغة في فحص مشكلاتنا الحالية ورؤيتها أكبر من أي مشكلة سابقة ، يتمثل في هذا الاعتقاد رؤية الأوضاع على أنها أسوأ من أي وقتٍ مضى ، وهكذا نبالغ في تحجيم المشكلة كأنها مأساة من نوعٍ خاص ، بدرجةٍ لا تناسب واقع الحدث ، عوضًا عن رؤيتها على أنها معضلة مألوفة ، وكل قضية تطلب حالة استنفار قصوى ، وكل واقعة تتحول إلى ذكرى متقيِّحة ، وكل حادثة تصبح كارثة تاريخية في أمسّ الحاجة إلى إصلاح عاجلٍ جذري"؛ لذا يستوجب على قاريء التاريخ قراءة مقننة لزمن الحدث ، والتعليق عليه من خلاله لامن خلال أحداث مشابههة له في الماضي ؛ واستثناء التعميمات من هذه الجملة فالتعميمات التاريخية قواعد لاتكسر ؛ لأنها مرتبطة بسنن كونية وضعها الخالق لاختبار المخلوق .
وإن قرأت التاريخ جيدًا ستجده ببساطةٍ عِبارة عن اختبار عظيم للبشرية التي تصنع تاريخها من خلال العقائد والمعطيات والأحوال الزمانية والمكانية ؛ وعليه فإن التاريخ لايعيد نفسه ؛ بل هو علم متفرد ، لاتتشابه فيه السنون والأشخاص وإن تشابهت الأحداث ، ويبقى لكل زمان تاريخه.
جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كاتبها